خطبة بعنوان " الأضحية ... أحكامها وآدابها "
الحمد لله الذي تفرد في أزليته بعز كبريائه،
وتوحد في صمديته بدوام بقائه،
ونور بمعرفته قلوب أوليائه،
وطيب أسرار القاصدين بطيب ثنائه،
وأسبغ على الكافة جزيل عطائه،
وأمن خوف الخائفين بحسن رجائه،
الحي العليم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في أرضه ولا سمائه، القدير لا شريك له في تدبيره وإنشائه ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
شهادة تزيد في اليقين ، وتثقل الموازين ،
يا رب :
أنت الملاذ إذا ما أزمة شمـلت ..
وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل
أنت المنادى به في كل حـادثة ..
أنت الإله وأنت الذخر والأمل
أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه ..
أنت الدليل لمن ضّلَّتْ به السبل
إنا قصدناك والآمال واقعة ..
عليك والكل ملهوف ومبتهل
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ،
أمين وحيه ، وخاتم رسله ، وبشير رحمته ، ونذير نقمته ،
بعثه بالنور المضي ، والبرهان الجلي ،
فأظهر به الشرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبين به الأحكام المفصولة ..
صلى الله عليه ، وعلى آله مصابيح الدجى ، وأصحابه ينابيع الهدى ، وسلم تسليما كثيراً ..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تََسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] ؛
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]،...
أما بعـــــــــــد :
أيها المسلمون:
عيد الأضحى يوم عظيم من أيام الله،
وهو آخر أيام عشر ذي الحجة،
التي جعلها الله خير أيام الدنيا،
وفي هذا اليوم المبارك يبتدئ المسلم بعبادة من العبادات،
وقربة من القربات التي يتقرب بها المسلمون إلى ربهم -سبحانه-،
وهذه القربة التي في ظاهرها أنها منفعة حسية للنفس الإنسانية،
ولذة يشتهيها الإنسان بطبعه،
ولكنها في حقيقتها عند المخلصين من عباد الله عبادة عظيمة في يوم عظيم؛
(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[الحج:37].
هذه القربة والعبادة هي:
الأضحية.
عباد الله: الأضحية هي:
اسم لما يذبح من بهيمة الأنعام بنية القربة إلى الله -تعالى-،
في وقت مخصوص.
وبهيمة الأنعام هي:
الإبل والبقر والغنم بنوعيها المعز والضأن،
وقد شرعها الله -تعالى- لحكم عظيمة، منها:
إحياء ذكرى إبراهيم مع ابنه إسماعيل-عليهما السلام-، قال -تعالى-:
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات:107].
ومنها: التوسعة على النفس والأهل والمحتاجين، قال الله -تعالى-:
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحج:28]؛ وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"أيام التشريق أيام أكل وشرب"(رواه مسلم).
أيها المؤمنون:
اختلف الفقهاء في حكم الأضحية هل هي واجبة أو لا؟
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأضحية سنة مؤكدة،
واستدلوا على السنية بأدلة؛ منها قوله -عليه الصلاة والسلام- :
"إذا دخل العشر ، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً"
(رواه مسلم)؛
فجعله-عليه الصلاة والسلام-
مفوضًا إلى إرادته،
ولو كانت الأضحية واجبة لاقتصر على قوله : "فلا يمس من شعره شيئاً حتى يضحي".
ويكره تركها للقادر عليها؛
فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم
- ما تركها منذ أن أعلمه الله بها؛
فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-
قال: "ضحى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين،
قال: ورأيته يذبحهما بيده،
ورأيته واضعًا قدمه على صفاحهما قال: وسمى وكبر"(متفق عليه).
عباد الله:
لو سألتم عن الحيوان الذي تجزئ التضحية به تقربًا إلى الله -تعالى-،
وأداء لهذه الشعيرة؛
فإن الحيوان الذي يضحى به هو بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم؛
لقوله -تعالى-:
١٨ (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)[الحج:34].
أيها المسلمون:
وللأضحية شروط لا تصح إلا بها؛
فاعلموها واعلموا بها حتى تصح أضاحيكم؛
فمن تلك الشروط:
أن تبلغ الأضحية من بهيمة الأنعام السنَّ المحددة شرعًا،
بأن تكون جذعة من الضأن وثنية من غيره،
قال رسول -صلى الله عليه وسلّم-:
"لا تذبحوا إلا مسنة،
إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"(رواه مسلم).
والمسنة:
الثنية فما فوقها، والجذعة ما دون ذلك؛
فالثني من الإبل: ما تم له خمس سنين،
والثني من البقر: ما تم له سنتان،
والثني من الغنم ما تم له سنة،
والجذع: ما تم له نصف سنة؛
فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجذع من الضأن.
ويشترط في الأضحية -أيضًا-:
أن تكون سليمة من العيوب التي لا تجزئ الأضحية بوجود واحد منها،
وهي: العور البيِّن، والعرج البين،
والمرض البين، والهزال المزيل للمخ،
وما كان مثل هذه العيوب أو أكثر منها كالعمى والبتر لأحد الأطراف وغير ذلك،
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"أربع لا تجزئ في الأضاحي:
العوراء البين عورها،
والمريضة البين مرضها،
والعرجاء البين ظلعها،
والعجفاء التي لا تنقي"(رواه أحمد).
ويشترط فيها: أن تكون ملكًا للمضحي بأي طريق من طرق الملك؛
بشراء أو إرث أو هدية أو هبة أو صدقة أو غير ذلك، وعليه؛
فلا يجوز التضحية بالمسروق أو المغصوب أو المأخوذ بأي طريق محرمة؛
لأن الأضحية قربة،
ولا يتقرب إلى الله بمعصيته، والله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا.
ويشترط في الأضحية:
أن يكون ذبحها في الوقت المحدد شرعًا، فلا تجزئ إذا ذبحت قبله أو بعده.
ووقتها:
من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس يوم الثالث عشر من ذي الحجة،
وهو آخر أيام التشريق؛
فعن جندب بن سفيان -رضي الله عنه-،
قال: شهدت الأضحى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛
فلما قضى صلاته بالناس نظر إلى غنم قد ذبحت، فقال: "
من ذبح قبل الصلاة،
فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح،
فليذبح على اسم الله"(متفق عليه).
وعن أنس-رضي الله عنه-،
قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يوم النحر:
"من كان ذبح قبل الصلاة فليعد"(متفق عليه).
أيها المسلمون:
وهناك مستحبات تندب في الأضحية،
علينا أن نحرص عليها؛
طلبًا للأجر، وحصول الخير؛
فمن تلك المستحبات:
استسمان الأضحية؛
لأن لحمها يكون أكثر وأطيب؛
فقد جاء في حديث أنس-رضي الله عنه-،
قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يضحي بكبشين أملحين أقرنين"،
وفي مستخرج أبي عوانة زيادة: "سمينين".
أن يذبح أضحيته بيده إن استطاع ذلك؛
لأن رسول الله -عليه الصلاة والسلام-
كان يذبح أضحيته بيده.
ويستحب فيها:
أن تضجع البقر والغنم على جنبها الأيسر،
وأن تنحر الإبل قائمة؛
لأن هذا كان فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم-.
ويستحب في الأضحية:
استقبال الذابح بها القبلة،
قال النووي -رحمه الله-:
"استقبال الذابح القبلة وتوجيه الذبيحة إليها، وهذا مستحب في كل ذبيحة،
لكنه في الهدي والأضحية أشد استحباباً؛
لأن الاستقبال في العبادات مستحب وفي بعضها واجب".
ويستحب في الأضحية:
أن تكون ذا لون حسن كالأبيض؛
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"دم عفراء أحب إليّ من دم سوداوين"(رواه أحمد).
ويستحب في الأضحية:
أن يتصدق منها؛
لقوله -تعالى-:
(فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)[الحج:36]،
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا وادخروا وتصدقوا"(رواه أحمد والنسائي).
وأما تقسيمها أثلاثًا: ثلث يؤكل،
وثلث يدخر،
وثلث يتصدق به؛
فهذا لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما ورد عن ابن مسعود-رضي الله عنه-؛
فيجوز العمل به، ويجوز تركه،
وتقسيمها تقسيمات أخرى،
كأكلها كلها، أو الإهداء منها،
ونحو ذلك.
وعلى الذابح أن يسمي ويكبر الله عند ذبحه؛
كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فعن شداد بن أوس-رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛
فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،
وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة،
وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"(رواه مسلم).
وأن يستر السكين ويحدها بعيداً عن الذبيحة، وألا يذبحها أمام أخواتها؛
فعن ابن عباس-رضي الله عنهما- قال:
"مر النبي -عليه الصلاة والسلام- على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحدّ شفرته وهي تلحظ إليه ببصـرها فقال:
أفلا قبل هذا،
أتريد أن تميتها موتتين؟!"(رواه البيهقي).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم،
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.